العشوائية المدخل الرسمي للفساد بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيري . المحامي
العشوائية المدخل الرسمي للفساد
بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيري . المحامي
لم يعان شعب على وجه الأرض من الفساد المالي والإداري على مدى العقود الأربعة الماضية مثلما عانى الشعب المصري حيث كانت بلاده تدار بسياسات عشوائية في ظل غياب كامل لأية رؤية مستقبلية ذلك لأن العشوائية في إدارة دولة بحجم مصر أكثر ضررا ، وأشد خطرا من إرهاب الجهلة ، ومؤامرات الأعداء على حاضر هذا الشعب ومستقبله .. ففي ظل عدم وجود خطط مستقبلية جادة اعتاد كبار المسئولين على مدى عشرات السنين فور توليهم السلطة على نسف إنجازات من سبقوهم ومن ثم البدء من أول وجديد ، والإنفاق في سبيل ذلك بسخاء كبير من قوت هذا الشعب الفقير كما لو كانت خزينة هذه الدولة مال سائب ، أو ثروة ليس لها صاحب .
كما اعتادت الحكومات السابقة أيضا على وضع الحلول السطحية ، وتقديم المسكنات الوقتية لكافة المشكلات المستعصية حيث كانت تنتهج سياسة (اللكلكة) لأنها ببساطة شديدة تفتح للمسئولين الفاسدين ، ومن يحومون حولهم ، ومن يدورون في فلكهم مدخلا رسميا للانحراف والعربدة ، وتوفر لهم بيئة مناسبة للنهب والسلب ، وفرصا متجددة للتهليب و(السفلقة) .. نعم كانت مصر تدار بأساليب عشوائية دون أفكار مسبقة ، ولا تقديرات منطقية ، ولا خطط مستقبلية تتناسب على سبيل المثال مع الكثافة السكانية التي تتزايد بمعدلات متسارعة في ظل غياب كامل للوعي العام ، وانعدام أية خطة تنموية .. حيث تشير معظم الإحصائيات إلى أن تعدادنا عام 2030 م سيتعدى حاجز 130 مليون .. وقد نبه إلى هذه الكارثة المتوقعة الرئيس عبدالفتاح السيسي أثناء إلقاء خطابه بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي حينما طلب من الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر أن تقوم مؤسسة الأزهر الشريف بدورها التوعوي للحد من مساوئ هذا الانفجار السكاني .
إن مساوئ الإدارة العشوائية لا تعد ولا تحصى فمثلا من ينسى الريان الذي تحول خلال عدة سنوات إلى دولة داخل الدولة تحت بصر وسمع الحكومة بفضل (كشوف البركة) وشيئا فشيئا تغول الريان حتى صفع الدولة وأحرج النظام في صفقة (الذرة الصفراء) الشهيرة فاستفاقت الحكومة المصرية على إيقاع تلك الصفعة المدوية لتعلن بشكل مفاجئ أن الريان الذي غطت مشاريعه سواد الأرض كان يعمل بالمخالفة للقوانين .. وهذا ليس غريبا في دولة كانت تحكمها عصابة من اللصوص والبلطجية والأفاقين .. ومن الريان في ثمانينيات القرن الماضي إلى المستريح في عصرنا الحالي الذي مارس نشاطه في توظيف الأموال في وضح النهار وكان من بين المودعين لديه كما نشرت وسائل الإعلام عدد لا بأس به من المسئولين الكبار الذين استردوا مدخراتهم وأرباحهم قبل سقوطه بعدة أيام !! .. لكن العجيب أن الصدفة أو القدر - سمها ما شئت - تحالفت مع الحكومة حيث لعبت الأولى دورا نفسيا مؤثرا ساهم في وقوع المصريين في شباك النصابين إذ كانت أسماءهم توحي دائما بالثقة ، وتبشر بالخير ، وتداعب الأحلام .. بدأ من السعد ، وصولا إلى المستريح ، مرور بالريان .. وقائمة النصابين لا تنتهي ، والنصب على المواطنين بعلم الحكومة لن يتوقف ليس نتيجة للسياسات العشوائية ، وتجاهل الظواهر السلبية فقط بل بسبب انعدام الأمانة ، وغياب الضمير ، وخراب الذمة .
لكن أسوأ الأمثلة على جرائم السياسات العشوائية التي اقترفتها الحكومات السابقة تتجلى في طريق شرق النيل (أسيوط الأقصر السريع) الذي يبلغ طوله حوالي 400 كيلو متر حيث كان مجرد طريق ترابي ضيق لا يزيد عرضه عن أربعة أمتار ولا يسمح بأي حال من الأحوال إلا بمرور سيارة واحدة بمعجزة فتم توسعته ومن ثم رصفه في نهاية سبعينيات القرن الماضي ليسع سيارتين لا ثالث لهما مما تسبب في وقوع حوادث مرورية كثيرة حصدت أرواح بريئة عديدة وما زال مسلسل الحوادث المرورية يقدم حلقاته المؤسفة حتى اليوم .. ومن الضروري هنا أن نشير إلى أن كافة المنازل في القرى الواقعة على امتداد هذا الطريق من أسيوط لغاية الأقصر كانت قبل رصفه قليلة متفرقة معظمها مبني بالطوب اللبني ونادرا ما كنا نلاحظ من بينها منزلا واحدا خرسانيا .. أما الآن فنشاهد المنازل الخرسانية متراصة جنبا إلى جنب في جميع القرى فضلا عن المدن الواقعة على هذا الطريق من أوله إلى آخره .
وهنا بيت القصيد حيث صرحت الحكومة بأنها تدرس حاليا إمكانية توسيع هذا الطريق بهدف تحويله إلى اتجاهين منفصلين حتى تصبح قدرته الاستيعابية أكثر ملائمة لشبكة الطرق الجديدة التي تعد الخطوة الأولى في خريطة تنمية الصعيد ويعتبر كوبري (جرجا دار السلام) المتوقع افتتاحه إن شاء الله في يناير 2017 م أحد مراحل هذه الشبكة .. لكن المشكلة الحقيقية في توسعة هذا الطريق تكمن في إزالة ما عليه من منازل خرسانية ومن ثم التعويضات الباهظة التي ستتكبدها الدولة ، ناهيك عن الجهود التي ستبذل في عمليات الإزالة ، فضلا عما سيصاحبها من اعتراضات متوقعة من أصحاب هذه المنازل التي تحدث عادة في مثل هذه الحالات بينما لو كانت حكومة السبعينات تملك رؤية مستقبلية لقامت بالتنبيه من خلال الإذاعات المحلية في المراكز المتاخمة لهذا الطريق بضرورة التزام المواطنين بترك عشرة أمتار حرما له في حالة البناء عليه .. وكما نلاحظ أن مجرد التنبيه كان كافيا حينئذ لأداء المهمة ، ومن ثم منع تفاقم المشكلة ، وتجنيب الدولة تبعاتها المكلفة .
لكننا لو بحثنا عن الجذور الأساسية لجريمة العشوائية .. لتبين لنا أن رئيس الجمهورية كان خلال العقود الأربعة الماضية عند تعيينه وزارة جديدة يكتفي غالبا بتقديم خطاب تكليف يتضمن خطوطا عريضة تحت عنوان فضفاض يطلق عليه عادة (عنوان المرحلة) .. فلا تكليفات محددة ، ولا رؤية مستقبلية ، ولا مهلة معينة وكأن لسان حال رأس النظام آنذاك يقول للوزراء الجدد اصنعوا ما تشاؤون ، متى تشاؤون ، كيفما تشاؤون في إدارة أغنى بلد في العالم كله من حيث الموارد الاقتصادية (بشرية وزراعية وصناعية وسياحية وتعدينية) ولعل هذا يفسر لنا ما اعتادت عليه تلك الحكومات في إدارة هذه البلاد من عبثية وفوضوية جعلت المظاهر السلبية تستفحل حتى تحولت إلى ظواهر اجتماعية تحتاج للقضاء عليها إلى معجزة كونية .. فلماذا لا تتبنى الدولة تقليدا جديدا ملزما للوزراء الجدد وذلك بأن يبدأ كل منهم عمله بعقد اجتماع موسع مع الوزير المقال ومساعديه للوقوف على كل كبيرة وصغيرة تخص وزارته .. على أن يسبق ذلك تسليم الوزير قائمة محددة بالمهام المطلوب تنفيذها خلال مدة زمنية معينة ، وما ينطبق على الوزير ينطبق على المحافظ ، ومن في حكمه من المسئولين ؟ .. حتى يمكننا القضاء إلى الأبد على العشوائية التي أدخلت البلاد في دائرة مغلقة من المشاكل والأزمات ، وأغرقتها في الفساد المالي والإداري ، وحولتها إلى دولة مهلهلة تتحكم فيها شبكة عنكبوتية فاسدة مكونة من حلقات مغلقة على عصابة حكمت المصريين بالحديد والنار .. سقط رأسها لكن ذيولها ما زالت تعبث بالأوطان حتى الآن .
بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيري . المحامي
لم يعان شعب على وجه الأرض من الفساد المالي والإداري على مدى العقود الأربعة الماضية مثلما عانى الشعب المصري حيث كانت بلاده تدار بسياسات عشوائية في ظل غياب كامل لأية رؤية مستقبلية ذلك لأن العشوائية في إدارة دولة بحجم مصر أكثر ضررا ، وأشد خطرا من إرهاب الجهلة ، ومؤامرات الأعداء على حاضر هذا الشعب ومستقبله .. ففي ظل عدم وجود خطط مستقبلية جادة اعتاد كبار المسئولين على مدى عشرات السنين فور توليهم السلطة على نسف إنجازات من سبقوهم ومن ثم البدء من أول وجديد ، والإنفاق في سبيل ذلك بسخاء كبير من قوت هذا الشعب الفقير كما لو كانت خزينة هذه الدولة مال سائب ، أو ثروة ليس لها صاحب .
كما اعتادت الحكومات السابقة أيضا على وضع الحلول السطحية ، وتقديم المسكنات الوقتية لكافة المشكلات المستعصية حيث كانت تنتهج سياسة (اللكلكة) لأنها ببساطة شديدة تفتح للمسئولين الفاسدين ، ومن يحومون حولهم ، ومن يدورون في فلكهم مدخلا رسميا للانحراف والعربدة ، وتوفر لهم بيئة مناسبة للنهب والسلب ، وفرصا متجددة للتهليب و(السفلقة) .. نعم كانت مصر تدار بأساليب عشوائية دون أفكار مسبقة ، ولا تقديرات منطقية ، ولا خطط مستقبلية تتناسب على سبيل المثال مع الكثافة السكانية التي تتزايد بمعدلات متسارعة في ظل غياب كامل للوعي العام ، وانعدام أية خطة تنموية .. حيث تشير معظم الإحصائيات إلى أن تعدادنا عام 2030 م سيتعدى حاجز 130 مليون .. وقد نبه إلى هذه الكارثة المتوقعة الرئيس عبدالفتاح السيسي أثناء إلقاء خطابه بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي حينما طلب من الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر أن تقوم مؤسسة الأزهر الشريف بدورها التوعوي للحد من مساوئ هذا الانفجار السكاني .
إن مساوئ الإدارة العشوائية لا تعد ولا تحصى فمثلا من ينسى الريان الذي تحول خلال عدة سنوات إلى دولة داخل الدولة تحت بصر وسمع الحكومة بفضل (كشوف البركة) وشيئا فشيئا تغول الريان حتى صفع الدولة وأحرج النظام في صفقة (الذرة الصفراء) الشهيرة فاستفاقت الحكومة المصرية على إيقاع تلك الصفعة المدوية لتعلن بشكل مفاجئ أن الريان الذي غطت مشاريعه سواد الأرض كان يعمل بالمخالفة للقوانين .. وهذا ليس غريبا في دولة كانت تحكمها عصابة من اللصوص والبلطجية والأفاقين .. ومن الريان في ثمانينيات القرن الماضي إلى المستريح في عصرنا الحالي الذي مارس نشاطه في توظيف الأموال في وضح النهار وكان من بين المودعين لديه كما نشرت وسائل الإعلام عدد لا بأس به من المسئولين الكبار الذين استردوا مدخراتهم وأرباحهم قبل سقوطه بعدة أيام !! .. لكن العجيب أن الصدفة أو القدر - سمها ما شئت - تحالفت مع الحكومة حيث لعبت الأولى دورا نفسيا مؤثرا ساهم في وقوع المصريين في شباك النصابين إذ كانت أسماءهم توحي دائما بالثقة ، وتبشر بالخير ، وتداعب الأحلام .. بدأ من السعد ، وصولا إلى المستريح ، مرور بالريان .. وقائمة النصابين لا تنتهي ، والنصب على المواطنين بعلم الحكومة لن يتوقف ليس نتيجة للسياسات العشوائية ، وتجاهل الظواهر السلبية فقط بل بسبب انعدام الأمانة ، وغياب الضمير ، وخراب الذمة .
لكن أسوأ الأمثلة على جرائم السياسات العشوائية التي اقترفتها الحكومات السابقة تتجلى في طريق شرق النيل (أسيوط الأقصر السريع) الذي يبلغ طوله حوالي 400 كيلو متر حيث كان مجرد طريق ترابي ضيق لا يزيد عرضه عن أربعة أمتار ولا يسمح بأي حال من الأحوال إلا بمرور سيارة واحدة بمعجزة فتم توسعته ومن ثم رصفه في نهاية سبعينيات القرن الماضي ليسع سيارتين لا ثالث لهما مما تسبب في وقوع حوادث مرورية كثيرة حصدت أرواح بريئة عديدة وما زال مسلسل الحوادث المرورية يقدم حلقاته المؤسفة حتى اليوم .. ومن الضروري هنا أن نشير إلى أن كافة المنازل في القرى الواقعة على امتداد هذا الطريق من أسيوط لغاية الأقصر كانت قبل رصفه قليلة متفرقة معظمها مبني بالطوب اللبني ونادرا ما كنا نلاحظ من بينها منزلا واحدا خرسانيا .. أما الآن فنشاهد المنازل الخرسانية متراصة جنبا إلى جنب في جميع القرى فضلا عن المدن الواقعة على هذا الطريق من أوله إلى آخره .
وهنا بيت القصيد حيث صرحت الحكومة بأنها تدرس حاليا إمكانية توسيع هذا الطريق بهدف تحويله إلى اتجاهين منفصلين حتى تصبح قدرته الاستيعابية أكثر ملائمة لشبكة الطرق الجديدة التي تعد الخطوة الأولى في خريطة تنمية الصعيد ويعتبر كوبري (جرجا دار السلام) المتوقع افتتاحه إن شاء الله في يناير 2017 م أحد مراحل هذه الشبكة .. لكن المشكلة الحقيقية في توسعة هذا الطريق تكمن في إزالة ما عليه من منازل خرسانية ومن ثم التعويضات الباهظة التي ستتكبدها الدولة ، ناهيك عن الجهود التي ستبذل في عمليات الإزالة ، فضلا عما سيصاحبها من اعتراضات متوقعة من أصحاب هذه المنازل التي تحدث عادة في مثل هذه الحالات بينما لو كانت حكومة السبعينات تملك رؤية مستقبلية لقامت بالتنبيه من خلال الإذاعات المحلية في المراكز المتاخمة لهذا الطريق بضرورة التزام المواطنين بترك عشرة أمتار حرما له في حالة البناء عليه .. وكما نلاحظ أن مجرد التنبيه كان كافيا حينئذ لأداء المهمة ، ومن ثم منع تفاقم المشكلة ، وتجنيب الدولة تبعاتها المكلفة .
لكننا لو بحثنا عن الجذور الأساسية لجريمة العشوائية .. لتبين لنا أن رئيس الجمهورية كان خلال العقود الأربعة الماضية عند تعيينه وزارة جديدة يكتفي غالبا بتقديم خطاب تكليف يتضمن خطوطا عريضة تحت عنوان فضفاض يطلق عليه عادة (عنوان المرحلة) .. فلا تكليفات محددة ، ولا رؤية مستقبلية ، ولا مهلة معينة وكأن لسان حال رأس النظام آنذاك يقول للوزراء الجدد اصنعوا ما تشاؤون ، متى تشاؤون ، كيفما تشاؤون في إدارة أغنى بلد في العالم كله من حيث الموارد الاقتصادية (بشرية وزراعية وصناعية وسياحية وتعدينية) ولعل هذا يفسر لنا ما اعتادت عليه تلك الحكومات في إدارة هذه البلاد من عبثية وفوضوية جعلت المظاهر السلبية تستفحل حتى تحولت إلى ظواهر اجتماعية تحتاج للقضاء عليها إلى معجزة كونية .. فلماذا لا تتبنى الدولة تقليدا جديدا ملزما للوزراء الجدد وذلك بأن يبدأ كل منهم عمله بعقد اجتماع موسع مع الوزير المقال ومساعديه للوقوف على كل كبيرة وصغيرة تخص وزارته .. على أن يسبق ذلك تسليم الوزير قائمة محددة بالمهام المطلوب تنفيذها خلال مدة زمنية معينة ، وما ينطبق على الوزير ينطبق على المحافظ ، ومن في حكمه من المسئولين ؟ .. حتى يمكننا القضاء إلى الأبد على العشوائية التي أدخلت البلاد في دائرة مغلقة من المشاكل والأزمات ، وأغرقتها في الفساد المالي والإداري ، وحولتها إلى دولة مهلهلة تتحكم فيها شبكة عنكبوتية فاسدة مكونة من حلقات مغلقة على عصابة حكمت المصريين بالحديد والنار .. سقط رأسها لكن ذيولها ما زالت تعبث بالأوطان حتى الآن .
تعليقات
إرسال تعليق