لا مستقبل إلا لأهل العلم بقلم عبدالرحيم حشمت عسيري . المحامي

لا مستقبل إلا لأهل العلم 
بقلم عبدالرحيم حشمت عسيري . المحامي 
إن الريادة - بكل ما تحمل الكلمة من معنى - ستكون في مستقبل الأيام لأهل العلم قولا واحدا ، ولن يكون لأصحاب المال فيها نصيب خصوصا إذا كان هذا المال من حرام .. ذلك لأن العلم غالبا ما يتسم أهله بالشمائل الحميدة التي تضمن لهم الاستمرار كالمحافظة على العادات والتقاليد والأعراف ، والتحلي بمكارم الأخلاق ، والتمسك بالقيم والمبادئ والمثل العليا .. أما المال فقد يصاحبه من المساوئ والموبقات ما لا يخطر على بال .. وبينما يجذب أهل العلم النخبة والمثقفين .. لا يأوي إلى أصحاب المال سوى الأفاقين والمنتفعين والمنافقين .. الذين إذا حضر المال حضروا ، وإذا ذهب المال ذهبوا .. إذن لا مستقبل في هذه الأوطان إلا لأهل العلم ولا فرق في ذلك بين أن يكون مستقر أهل العلم في المدينة أو في القرية بل الأخيرة أولى باعتبارها الأصل المكون لهذا الوطن ، واللبنة الأولى في بنيانه . 
منذ عدة أيام عمت الفرحة مسقط رأسي في قرية هاشم عسيري إحدى قرى مركز دار السلام بسوهاج .. حيث حصل ابن عمي الشاب الوقور حسن حلمي عسيري .. على الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى في فلسفة التاريخ الإسلامي من جامعة القاهرة .. فحقق الحلم الذي كان يراودني منذ صغري في أن أكون محاضرا جامعيا و يا له من حلم جميل اتخذت فيه بعض الخطوات فور تخرجي إلا أن ظروف السفر حالت دون تحقيق هذا الحلم فتسرب من يدي ليتلقفه بعد ثلاثة عقود حسن حلمي ، وكأن القدر يقول لي لا تحزن لقد حققنا حلمك دون أن تبذل جهدا ، أو تنفق مالا ، أو تهدر وقتا . 
وحتى تتضح لنا الرؤية لابد من تسليط الضوء أولا على نشأة الدكتور حسن .. كي نأخذ من قصة حياته العظة والحكمة والعبرة ، ونستخلص منها الدروس المستفادة .. حيث ولد الطفل حسن وتربى في بيئة ريفية لأسرة فقيرة مكافحة ، مكونة من خمسة أبناء هم ترتيبا حسب السن المغفور لهما بإذن الله تعالى (عبدالعليم وعبدالسميع) اللذان رحلا عن دنيانا في عنفوان شبابهما ، يليهما رجب ، ثم حسن بطل قصتنا ، يليه عمر ، وأم مصرية أصيلة صابرة تستحق أن تحصل على جائزة الأم المثالية عن جدارة ، ولا أدري لماذا لم يقدم الدكتور حسن قصتها حتى الآن للجهات المختصة ؟ . 
أما الأب فهو فلاح بسيط حاله كحال بقية أهل القرية .. كان يعمل في مقتبل حياته جمالا ، ولا يملك من حطام الدنيا سوى جمله .. وكما هو معروف أن مهنة الجمال مهنة شاقة للغاية .. لذا تتطلب الصبر والهمة ، وتشترط الصدق والأمانة .. ومع مرور الأيام ضاقت به الأحوال بعدما كبرت المسئولية وزادت عليه الأحمال .. فسافر إلى دولة الكويت ، وبعد فترة وجيزة أنهى غربته ، وعاد ليستقر نهائيا في قريته ، ويواصل رحلة كفاحه ، فاستطاع أن يعلم أبنائه ويزوجهم ويكمل رسالته .. نعم قضى عمنا المرحوم حلمي حياته كلها مكافحا ورعا تقيا ، زاهدا في الدنيا ، فقيرا إلى الله ، غنيا عن الناس ، لم يشاهد طوال حياته إلا وهو يكد على رزقه ، أو ذاهبا إلى المسجد أو عائدا منه ، وكان صريحا واضحا حاد الطباع ، لا يخشى في الله لومة لائم ، ولا يجامل في قول الحق أحدا كائن من كان على وجه الأرض ، لذا لم يكن طرفا في يوم من الأيام في القيل والقال ، وكيف لمن كانت كلمة الحق تجري على لسانه كالقضاء والقدر أن يكون طرفا في الغيبة والنميمة والفتن ؟ . 
لعل من الجوانب المميزة لشخصية الدكتور حسن أنه إنسان سوي لا يعاني من رواسب قديمة ، أو عقد نفسية ، أو أحقاد دفينة .. لذا لا يخجل من ماضيه ، بل يفخر به ، ويسعد بالعروج إليه في أحاديثه مع أصدقائه ومحبيه وأقاربه .. ولا أظنه بعدما تتحسن ظروفه ، وتتعدل أحواله .. ينكر ماضيه ، وينسى قصة كفاحه ، ويتعالى على محيطه ، ويتبرأ من أهله كما فعل غيره .. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على التربية السليمة ، والبيئة الصالحة ، والنشأة السوية .. ويؤكد على أن منبته وطعامه وملبسه من حلال . 
إن حصول الدكتور حسن .. على شهادة الدكتوراه ، واحتلاله لهذا المركز الأدبي ، واحتسابه ضمن الصفوف الأولى في المجتمع المصري .. يساهم في أبسط صوره في الإرتقاء بمستوى أداء المرافق العامة في قريتنا التي حرمت كثيرا ، وعانت طويلا ، وما زالت تعاني من الإهمال والتردي والتهميش حالها كحال بقية قرى محافظات الصعيد ، ويكفي أن نعلم أن أبنائها كانوا على مدى عقود طويلة يتكبدون مشقة كبيرة في جلب المياه من (الترعة الفاروقية) .. حيث كان يشرب منها الإنسان والحيوان سواء بسواء ، وهي مياه مخصصة للري ، وغير صالحة لاستعمال أي كائن حي .. ولم تصل مياه الشرب إليها إلا في عام 1984 م .. لكنها للأسف مياه ملوثة ، غير صالحة للاستعمال الآدمي ، بل مسببة لجميع الأمراض الفتاكة ، وما زالت فصول المعاناة مستمرة حتى يومنا هذا .. لكن إجمالا يمكن القول بأن القرية بشكل عام تطورت كثيرا في وقتنا الحالي ، واختلفت اختلافا جذريا عما كانت عليه في الماضي ، وكل الدلائل تشير إلى أن قريتنا كما تحول وضعها الجغرافي ، وتبدل مركزها المالي ، سيتطور موروثها الثقافي ، وسيتغير وجهها الاجتماعي ، والعاقل هو من يرضى بالأمر الواقع ، ويتكيف مع معطيات الحاضر .. غير أن التسليم بسنة التغيير ، لا يتعارض أبد مع استعمال الحق في التطوير .. حيث أن أبواب المنافسة مشرعة أمام الجميع ، والفرص المشروعة لا تنتهي . 
يحسب للدكتور حسن .. أنه أعطى لغيره الأمل ، وأثبت بقصة كفاحه مقولة (من سار على الدرب وصل) ، حيث لم يكتف بدراسته الجامعية بل أصر على أن يكمل دراسته العليا ويحصل على الدكتوراه بالرغم من صعوبة ظروفه المادية ، نظرا لبقائه فترة طويلة عاطلا عن العمل .. كما يحسب له أيضا أنه بعد صدور قرار المحافظ بتعيين حملة الماجستير والدكتوراه عقب ثورة 25 يناير 2011 م الشعبية الخالدة .. أنه فضل حينئذ العمل مدرسا في قريته على العمل في وظيفة إدارية في ديوان المحافظة ، بالرغم مما في العمل في ديوان المحافظة من وجاهة لا تنكر ، وفرصة كبيرة للصعود والترقي ، ومركز اجتماعي لا يغفل .. إلا أنه أبى إلا أن يعمل مدرسا في قريته حتى يكمل دراسته العليا ، ويحقق هدفه الذي كافح طويلا من أجله ، والأهم كي يكون أكثر قربا وقدرة على أداء رسالته الاجتماعية السامية تجاه أسرته التي أصبح المسئول الأول عنها بعد وفاة والده وشقيقيه عليهم رحمة الله جميعا .. نعم تحمل الدكتور حسن وما زال يتحمل مسئولية هذه الأسرة الكبيرة التي تفرعت إلى خمسة أسر تعيش جميعها في بيت واحد تحت مظلته . 
وفي الختام أتمنى أن يعود العلم كما كان هدفا وأمنية ، وأن يكون الدكتور حسن أول الغيث لا آخره ، وأن يصبح قدوة الشباب ومثلهم الأعلى ، في تحصيل العلم والتحلي بالأخلاق الحسنة ، فلا خير في علم بلا تربية ، بل إن العلم وسوء التربية ضدان لا يجتمعان في إنسان أو هكذا يجب أن يكون .. ولعل من دواعي سرورنا أن يسير على نهج الدكتور حسن شاب آخر من أبناء عمومتنا .. شاب خلوق متفوق جدا في دراسته ، وقصة كفاح أسرته لا تختلف كثيرا عن قصة سابقه .. غير أنه يعمل معيدا في كلية التجارة جامعة سوهاج .. إنه الدكتور إسماعيل جابر عسيري .. (دكتور) على سبيل المجاز باعتبار ما سيكون إن شاء الله خلال السنوات القليلة القادمة .




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

*تونس يا بلادي... سميربن التبريزي الحفصاوي

الإعلامي د. أحمد أسامة عمر يتألق فى ندوة نادي سينما أسامة عمر

نفحةٌ قلب بقلمي السيد حسن عبدربه