التقليد الأعمى الهدام  - بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيري . المحامي 

التقليد الأعمى الهدام 
بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيري . المحامي 
من الحقائق التاريخية المؤسفة أن العرب مولعون دائما بالتقليد الأعمى الهدام ، إذ لم يحاولوا عبر تاريخهم الطويل تقليد غيرهم من الأمم في أي شيء هام .. كما اعتادوا على ألا يستثمروا أموالهم ، أو يستغلوا قدرات أبنائهم فيما هو مفيد لمستقبل الأجيال .. ولعل من أبرز المشاهد التي توضح ذلك وتؤكد عليه في هذا الزمان مشهدان أولهما : المشهد العربي حينما انهار عقد الاتحاد السوفيتي رأس المعسكر الشرقي في نهاية عام 1991 م .. حيث لم يحمه تفوقه العسكري أمام انهياره الاقتصادي ، ولم يشفع له تقدمه العلمي ، ولا سبقه الفضائي – كونه أول دوله غزت الفضاء في العالم كله – نعم كانت كلمة السر في انهيار الاتحاد السوفيتي هي الاقتصاد ولا شيء غيره .. وهذا معناه أن دور الاقتصاد لا يقل أهمية أو خطرا عن دور السلاح التقليدي وغير التقليدي في استقرار الدول ، وتماسك أركانها ، ووحدة أراضيها ، وسلامة شعوبها .. فعندما خارت قوى الاتحاد السوفيتي الاقتصادية ، انفرط عقده ، واستقلت جمهورياته ، وأفل نجمه .. وهو نفس المصير الذي يتوقعه العديد من الخبراء والمحللين للولايات المتحدة الأمريكية عنوان الشر والعنجهية ، ورمز الانحلال والعنصرية ، وراعية الإرهاب والفتن والكراهية . 
انهار الاتحاد السوفيتي فخسر العالم الثالث – وفي مقدمته العرب – حليفا مهما ، وسندا قويا .. حيث انفردت الولايات المتحدة الأمريكية بالعالم كله كقوة عظمى وحيدة .. ما جعل روسيا كوريث شرعي للاتحاد السوفيتي تحاول جاهدة أن تأخذ دوره الدولي ، في الوقت الذي يراقب فيه العالم كله باهتمام شديد توسع طموحات الصين السياسية ، وتنامي معدلاتها الاقتصادية ، وتزايد قدراتها العسكرية لملء الفراغ الذي أحدثه غياب الاتحاد السوفيتي كقوة عظمى في مواجهة أمريكا لإعادة التوازن إلى المعادلات الدولية مرة أخرى .. وبينما حرصت إيران وكوريا وباكستان على شراء تكنولوجيا أسلحة الردع ، واستقطاب العلماء الروس في هذا المجال .. رأينا بعض البلدان العربية لا مكان لقضية امتلاك أسباب القوة على قائمة اهتماماتها .. أما البعض الآخر فقد ترك هذه الغنيمة العلمية ، وتلك الثروة التكنولوجية ، وراح يلهث وراء جلب نادلات الحواني ، وبائعات الهوى ، وراقصات الملاهي . 
أما المشهد الثاني فهو انطلاق البرنامج الثقافي (من سيربح المليون) في ثوبه العربي على إحدى القنوات الفضائية العربية في أواخر عام 2000 م .. ومن المعروف أن الانطلاقة الأولى لهذا البرنامج كانت في بريطانيا ومن بعدها الهند .. لكن منذ انطلاق هذا البرنامج في ثوبة العربي أثار إعجاب الجماهير في الشرق الأوسط كله ، ونال شهرة واسعة ليس لها مثيل .. ومنذ ذلك الوقت تدفقت البرامج الثقافية ثم أصيبت القنوات الفضائية بعدوى برامج مسابقات المواهب الفنية – المقلدة بدورها – التي انتشرت على شاشات الفضائيات العربية كالنار في الهشيم .. فنالت اهتمام وإعجاب ومتابعة الملايين من المشاهدين العرب بمختلف طبقاتهم الاجتماعية ، وشتى مستوياتهم العلمية والمادية ، ومختلف مراحلهم العمرية .. ومن ثم راجت الإعلانات التجارية ، ووجد رجال الأعمال ضالتهم المنشودة ومن هنا بدأت المنافسة . 
فإذا كان تصنيع أسلحة الردع غير التقليدية من المحرمات الدولية على الدول النامية .. فإن الاقتصاد لا يقل أهمية عن أسلحة الردع كما أسلفت .. وكى نتأكد من ذلك ما علينا إلا أن ننظر إلى اليابان التي لا تملك جيشا محاربا منذ الحرب العالمية الثانية لنرى كيف أصبحت بتقدمها الاقتصادي مصدر تهديد حقيقي لأمريكا بكامل عنفوانها وجبروتها .. إذا لماذا لا يحاول العرب وعلى رأسهم مصر تحقيق بعضاً من المنعة من خلال دعم المهارات البشرية ، وتنمية القدرات الذاتية ؟ .. ولتكن البداية بإطلاق برنامج تلفزيوني خاص بمسابقات أصحاب الاختراعات لاكتشاف المواهب المدفونة على غرار البرامج الفنية من أجل التشجيع على الخلق والإبداع ، والدفع في اتجاه استعمال العقل ، والإسهام في تطوير الفكر ، وإزاحة التراب عن الاختراعات العديدة حبيسة الأدراج .. تمهيدا لتصنيعها ، والترويج لها ، وتقديم الدعم اللازم لأصحابها .. على أن يكون التقييم من خلال لجنة مكونة من خبراء في الاقتصاد والتكنولوجيا والميكانيكا والقانون والبيئة ، وأن يكون معيار الفوز للاختراع الأقل تكلفة والأكثر فائدة لخلق ميزة تنافسية بين المخترعين .. أسوة بما تعرضه القنوات الفضائية من برامج لاكتشاف المواهب الفنية من باب التقليد الأعمى للمجتمعات الغربية بدأ من ستار أكاديمي ، مرورا ببرنامج زافوس ، وصولا إلى أرب ايدول وغيرها من برامج مسابقات الطرب والتمثيل .. مع احترامنا الكبير للفن وأهله باعتباره أحد أضلاع قوتنا الناعمة التي نشرت ثقافتنا ولهجتنا ، وشهرت عاداتنا وتقاليدنا وأعرافنا ، وساهمت إلى حد كبير في تعميق قيادتنا ، وتكريس ريادتنا للعرب كافة .. ومع ذلك لا يصح أن نجعل الفن كل همنا ومبلغ أملنا وكأن الطرب هو حلمنا الوحيد ، والتمثيل هو هدفنا الأول والأخير . 
لعل التقاليد الرئاسية الجديدة التي أرساها الرئيس عبدالفتاح السيسي .. ومنها لقائه السنوي بأوائل خريجي الجامعات وحرصه الدائم على التفاعل المباشر مع الشباب المصري الواعد والمتفوقين منهم على وجه الخصوص ، ولقاءاته المتكررة مع أصحاب العقول المبدعة يعد مؤشرا إيجابيا وعاملا مساعدا على القبول بهذا الاقتراح إيذاناً بتحويل الاختراعات من مجرد أفكار وأحلام إلى شيء ملموس يسهم في بناء الأوطان . 
من المعروف أن الإنفاق على برامج مسابقات المواهب الفنية يتم من عائدات الرسائل التليفونية والإعلانات التجارية التي تعتمد أساسا على مشاهدة ومتابعة ومشاركة وتواصل الجمهور .. وأن نسب التصويت هي التي تحسم المنافسة وتحدد الفائز بالمرتبة الأولى في نهاية البرنامج .. فإذا كانت البرامج الفنية لها جمهور واسع من المهوسين بها فإني على يقين بأن الجمهور المتوقع لبرنامج الاختراعات المقترح سيكون أضعاف جمهور البرامج الفنية .. ذلك لأن الاهتمام بمثل هذه النوعية من البرامج الوطنية يعد تعبيرا حقيقيا عن حب الأوطان التي نبذل في سبيلها النفس والوقت والمال .. لذا أتوقع له إقبالاً جماهيرياً كبيرا من كافة المستويات وجميع الأعمار . 
وختاماً يجب الإشارة إلى أن الجهة الرسمية الوحيدة المعنية بحفظ حقوق ملكية الاختراعات هي أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا بالقاهرة .. لكن دورها قاصراً على حفظ حقوق ملكية الاختراعات دون الإسهام بأي شكل من الأشكال في تصنيعها أو تسويقها حيث أنها هيئة حكومية ذات طابع روتيني محبط للشباب النابغ ، ومعطل للعقول المبدعة .. فإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك فعلا فلماذا إذا لا تتبنى الدولة هذا الاقتراح من باب استغلال أدوات العصر ، وتطبيق أساليبه الحديثة عوضا عن ذلك النمط التقليدي العقيم القائم منذ سنين طويلة .. خاصة بعدما ثبت فشله ، وكان أحد الأسباب الرئيسية الطاردة للعقول المصرية المبدعة إلى شتى بقاع المعمورة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

*تونس يا بلادي... سميربن التبريزي الحفصاوي

الإعلامي د. أحمد أسامة عمر يتألق فى ندوة نادي سينما أسامة عمر

نفحةٌ قلب بقلمي السيد حسن عبدربه