تغريدة الشعر العربي -السعيد عبد العاطي مبارك الفايد مصر
تغريدة الشعر العربي
السعيد عبد العاطي مبارك الفايد مصر
================
الشاعر البائس و الصعلوك الساخر
عبد الحميد الديب ١٨٨٩ / ١٩٤٣ م ٠
" إن حظّي كدقيق ٍ
فوقَ شوكٍ نثروهُ
ثمّ قالوا لحُفاةٍ
يومَ ريح ٍ إجمعوهُ
صعُبَ الأمرُ عليهمْ
قلتُ يا قوم ِ اتركوهُ
إنّ من أشقاهُ ربِّي
كيفَ أنتم تسعدوهُ؟! "٠
===
سجنوا عليك الكون أم سجنوكا
لم أنصفوا في ظلمهم قتلوكا
تخذوا عذابك أو نعيمك شهوة
وتقاسموك كأنهم خلقوكا
لم يرحموك على عماك كأنهم
حسبوا العذاب على العمى يهنيكا
نم يا ضرير ففي عماك سعادة
ألا ترى عيناك من ظلموك
٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠
إن عالم الشعراء الصعاليك في شعرنا العربي القديم يحفل بعدد هائل لا بأس ، مما حذا بأستاذنا الجليل د٠ شوقي ضيف يكتب عنهم كتابا طريفا موضوعيا يحمل عنوانه ( الشعراء الصعاليك ) وهم الخلعاء الصعاليك و أبناء الحبشيات ، و منهم
ومنهم :
السليك بن السليكة، و تأبط شرًا، والشنفرى، وعروة بن الورد العبسي ، وحاجز الأزدي ، وليس بن الحدادية ، وأبي الطحان القيني ، و غيرهم كثيرون ٠
و في عصرنا الحديث نتوقف مع هذا الشاعر البائس و الصعلوك الساخر عبد الحميد الديب الذي كان به ميل للصعلكة و الضياع ٠
فالحرمان مؤثر ، و من ثم نجد شعراء كُثر اندرجوا إلى هذا المستنقع ٠٠
وقد وصف هذه الحالة شاعرنا صالح علي الشرنوبي في قصائد كثيرة ، وها هو الشرنوبي الذي يندب حظه وصفا بليغا يعكس حجم المرارة و المعاناة ، و لا سيما عندما يرى و يعايش حظوظ الناس شتي فيقول ساخطا متبرما متوجعا :
وحظي وقد غسّلته بمدامعي
ولم أحتسب فيه لدى زمني أجرا
كأني به في قبضة الموت زهرة
يبابيّة الأوراق لا تنفحُ العطرا
ويأسي من الدنيا وسخطى على القضا
وإيمان عقلى بالأراجيف مضطرا
شقيت وأشقيت الليالي بمطلب
تمنّيته صبحا وحقّرته ظهرا ٠
ثم يمضي الشرنوبي قائلا :
رأيت حظوظ الناس شتّى فجاهل
أميرٌ وأهل العلم في كفّه أسرى
ونابغةٍ فذٍّ يعيش مشرّدا
يكابدُ من أيّامه الذلّ والفقرا
فإن مات هبّ النائمون فأمطروا
ثراه الجديب القفر مدمعهم ثرّا
وراحوا يحيّون الرميم بذكره
وهيهات أن تجدى على الميّت الذكرى
لقد كان يرجو القوت لا مؤمنا به
فظنّون يرجو المستحيل أو الكفرا ٠
و ها هو عالم عبد الحميد الديب الشعري البائس الساخر ، والذي نتعرف عليه من خلال هذه التغريدة الحزينة هكذا ٠٠٠!!٠
* نشأته :
======
وُلد الشاعر و الأديب المصري عبد الحميد الديب في 1989م بقرية كمشيش، إحدى أعمال محافظة المنوفية بمصر، في أسرة بائسة٠
وقد تسمى بـ"وريث الصعاليك" ٠
عاش حياته في مصر.
حفظ القرآن الكريم في كتّاب القرية، فتأهل للالتحاق بالتعليم الديني (الأزهري)، ثم انتسب إلى معهد الإسكندرية الديني وهو في مطلع العقد الثاني من عمره، ثم سافر إلى القاهرة فالتحق بالأزهر (1920) ولكنه ما لبث أن عدل عنه إلى مدرسة دار العلوم ليظفر بالمكافأة الشهرية التي تمنحها لطلابها. لم يُتم دراسته بدار العلوم لما درج عليه من إهمال دروسها وإيثار القراءة الحرة في دار الكتب.
عمل في مهن خشنة في زمن مبكر من صباه وذلك لفقر أسرته، فاشتغل «صبي جزار»، حين كان يدرس في كتّاب القرية، وعمل مدرسًا بالمدارس الأهلية حين كان يدرس في دار العلوم.
وارتحل عن الدنيا في 1943م وما بين الميلاد والرحيل عاش الشاعر طريداً محروماً يعاني الفاقة والجوع، ومما زاد في مرارة نفسه أنه لم يجد تعليلاً مقبولاً لإخفاقه في الحياة وبؤسه رغم ثقافته وموهبته الشعرية التي كان يؤمن بها، كذلك لم يجد أمامه سوى المغمورين والتافهين من أدعياء الأدب وقد تألق نجمهم ومنحتهم الحياة المال والجاه والسطوة، ولكنهم رغم ما بذل لهم الديب من شعره مقابل الملاليم، إلا أنهم راحوا يغتابونه ويعرّضون بفقره وبؤسه، فأنشد فيهم يقول:
أعيش فيكم بلا أهلٍ ولا وطنٍ
كعيش منتجع المعروف أفاق
وليس لي من حبيب في ربوعكم
إلا الحبيبين: أقلامي وأوراقي
لم أدر ماذا طعمتم في موائدكم
لحم الذبيحة، أم لحمي وأخلاقي ٠
ما أجمل هذه الأبيات الشهيرة التي يندب فيها الشاعر البائس عبد الحميد الديب حظه العاثر دوماً حين يقول:
«إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه.. ثم قالوا لحفاة يوم ريح أجمعوه»..
وهذه الأبيات الشعرية الشهيرة له ، و لكن يخلط بعض المتابعين
بينه وبين الشاعر السوداني إدريس جماع " ١٩٢٢ - ١٩٨٠ م " وهذا يدل على البعد الزمني بينهما ، كما أن هذه الأبيات موثقة وحققه في ديوانه ، قبل أن يظهر شعر إدريس في السودان وقدومه إلى مصر ولا توجد وسائط حديثة وهذا قناعتي المتواضعة ، و أسهب النقاد والشارحين لشعرهما لمن يريد أن يتعمق في الدراسات الأدبية عنهما .
و هذا ليس صحيحاً وقد ينسب البعض هذه الأبيات لشاعر السودان إدريس جماع ربما لأنها تتوافق مع أجواء الحزن والأسى التي تلف أشعار جماع.
نعم أنه عبد الحميد الديب الملقب في مصر بالشاعر البائس وأحياناً بالصعلوك الساخر.
و عبد الحميد الديب كان سكيراً مدمناً للخمر والكوكايين، وكان فقيراً مدقع الفقر وبائساً مشرداً وهجّاءً ذا لسان يهابه الكل، ولكنه فوق ذلك كان يملك موهبة شعرية قلَّ أن يجود الزمان بمثلها.. موهبة للأسف أضاعتها الخمر والمخدرات وأهدرها البؤس والفقر.
وعندما بلغ به الفقر والجوع منتهاه راح يبيع أشعاره بدراهم ضئيلة وأحياناً بكأس خمر ردئ أو جرعة مخدر لأنصاف الشعراء وعديمي الموهبة فنسبوها إليهم. وفي هؤلاء كتب عبد الحميد الديب يقول:
يا أمّةً أنكرتني وهي عالمةٌ
أن الكواكب من نوري وإشراقي
بين النجومِ أناسٌ قد رفعتهم
إلى السماء فسدوا باب أرزاقي ٠
ويوم مات الديب نعاه صديقه ورفيق دربه الشاعر الكبير كامل الشناوي فكتب يقول: «اليوم مات شاعر جاع وشبعت الكلاب، وتعرّى واكتست الأضرحة»٠
***
وها هو يندب نفسه حسرة في رثاء حزين حيث الفقر المدقع و الشعور بالحرمان قائلا:
ضاقت بهِ الدنيا فكُــن رحْـبًا بــهِ
قد ذلّ مِـن غدر الزمانِ ورَيـْـبــِهِ
لا تنكروا الشكــوى على مُتبرّمٍ
قـلـِـق الحـياةِ كمَـن يُشـاكُ بثوبهِ
أنا لا أرى فـي شـبــابيَ لذة
لهــفـي على مرحِ الشبابِ وعُجبـهِ
مـن كـان توأمَـهُ الشقـاءُ وصنـْوَهُ
فشـبـابُهُ حـربٌ عليهِ كـشَـيْـبـِهِ! ٠
***
و في نهايته المأسوية يفارق لذة الحياة تائبا صداحا :
تبتُ من ذنبي ومن ترجـع بـهِ
نفسُـهُ للهِ يبعثهُ تقيّا
توبة من بعد أن فــزتُ بهـا
كلُ شيءٍ صار في عينـي هنيّا
فتراني في السمـواتِ العُلـى..
أصحبُ الشمسَ وتعنو لي الثُريّا
ولـدى سدرتهـا فـي موكـبٍ
ما حـوى إلا ملاكًـا أو نبيّــا ٠
***
وظل عبد الحميد الديب ثائرا على المجتمع ،وهو ينظر إلى أمته فيراها قد احتضنت الجاهل والدعي والمغرور، وتركته كمًّا مهملًا، بل وجدها لم تحسه ولم تشعر به، فيثور:
يا أمة جهلتني وهي عالمة
أن الكواكب من نوري وإشراقي
أعيش فيكم بلا أهل ولا سكن
كعيش مُنتجِع المعروف أفاق
وليس لي من حبيبٍ في دياركُمُ
إلا الحبيبين أقلامي وأوراقي
لم أدرِ ماذا طعمتم في موائدكم
لحم الذبيحة أم لحمي وأخلاقي
بين النجوم رجال قد رفعتهُمُ
إلى السماء فسدُّوا بابَ أرزاقي ٠
***
و نختم له بهذه القصيدة بعنوان ( سجنوا عليك الكون أم سجنوك ) حيث يقول شاعرنا الساخر عبد الحميد الديب :
سجنوا عليك الكون أم سجنوكا
لم أنصفوا في ظلمهم قتلوكا
تخذوا عذابك أو نعيمك شهوة
وتقاسموك كأنهم خلقوكا
لم يرحموك على عماك كأنهم
حسبوا العذاب على العمى يهنيكا
نم يا ضرير ففي عماك سعادة
ألا ترى عيناك من ظلموكا
ألا ترى اثر الطغاة وجورهم
عرضا ذبيحا أو دما مسفوكا
ألا ترى الدنيا شخوص رواية
ضلت وضلوا شرعة وسلوكا
صادوك فاتخذوك لعبة ملجأ
كم عذبوك به وكم ضربوكا
يا شيخ أضناك المشيب أو العمى
فلجأت حراً لم تكن صعلوكا
في الغرب كل اللاجئين تخالهم
بين النعيم المستقر ملوكا
وهمو بمصر معذبون أذلة
ملكوا على الرق المهين صكوكا
يحيون في ظل الإسار وضيقه
بأشد من عيش السجون حلوكا
ثاروا وثاروا والحكومة لم تزد
إلا ظنونا حولهم وشكوكا
وهمو كباقي الشعب في بأسائه
ظل الحنو به غدا متروكا
رغبوا السجون من الملاجئ إذ رأوا
فيها الخلاص من الإسار وشيكا ٠
هذه كانت قراءة سريعة إلى عالم عبد الحميد الديب الشاعر الساخر المنتسب إلى الصعاليك من الشعراء و قد أجاد في هذا الدرب ٠٠
وقدمت عنه بحوث مستفيضة من قبل مطبوعة منشورة ٠
ليظل علامة فارقة في ديوان شعرنا المعاصر يذكرنا بالأوائل ممن نحا نحوهم دائما ٠
مع الوعد بلقاء متجدد لتغريدة الشعر العربي أن شاء الله ٠
تعليقات
إرسال تعليق