إمرآة على حافة الهاوية/بقلمى. عبدالنبى عياد

إمرآة على حافة الهاوية
فى نفس المكان ونفس الشارع الممتد بوسط المدينة لازالت تلك السيدة تجلس على أحد الآرصفة وأمامها صندوق صغير موضوع عليه عدد من علب المناديل وبعض الأشياء الأخرى مثل البسكويت والحلوى ولكنها دائما تمسك بيدها مصحفاً تقرأ فيه؛ فلم أتذكر يوماً أننى مررت أمام هذه السيدة ولم أجدها تقرأ فيه؛ فهذه السيدة لا تتعدى الخمسين من العمر ترتدى عباءة وحجاب أسودان ولكن جمالها يطفوا فوق ذلك اللون الأسود وذلك ما لم يوحى للكثيرين أن هذه السيدة الجميلة هى بائعة تلك الأشياء على ذلك الرصيف؛ فتوقفت أمامها يوماً وأنا أخرج من جيبى مبلغان من المال لمساعدة هذه السيدة لأننى أعتقد بالفعل بأنها ليست هذه هى مهنتها وأن لديها مشكلة ما جعلتها فى هذا المكان؛ ولكن عندما مددت إليها يدى فوجئت بنظرة غريبة فى عينيها الجميلتان اللتان قد خيمت عليهما سحابة من الحزن وهى ترفض بشدة يدى الممدودة إليها قائلة بصوت ملىء بالشجن والحزن حتى كادت أن تبكى. 
إننى بائعة ولست شحاذة وإن كنت تريد أن تساعدنى فإشترى بنقودك هذه بعضاً من هذه الأشياء ولك جزيل الشكر. 
عندئذ وقفت مكانى وكأننى قد أصابتنى الدهشة؛ يبدو أننى كنت على حق؛ ثم أفقت بعد برهة ومددت يدى فأخذت بعض الأشياء ثم أعطيتها النقود وأنصرفت وأنا مازلت فى دهشتى أفكر كيف أستطيع مساعدة هذه السيدة؛ وظللت أدبر أمرى وأنا على يقين بأن الله سيعيننى على مساعدة تلك السيدة. 
ومرت عدة أيام ثم عدت إليها لأجدها فى نفس المكان فجلست بالقرب منها حينذاك أحسست فى وجهها خجلا شديداً وهى تنظر وتتلفت يميناً ويساراً وكأننى قد وضعتها فى حرج ثم سألتنى فى هوادة. 
ماذا تريد منى. 
قلت دون أن أنظر إليها. أريد مساعدتك. 
قالت. وكيف ستساعدنى. 
قلت أريد أولاً أن أعرف من أنتى أيتها السيدة الطيبة. 
قالت وهى تتنهد فى أسى وكأنها تحمل بداخلها هموماً تفوق قدرتها. 
إننى سيدة توفى زوجها منذ عامان لقد كان رجل أعمال ثرى وعندى ولدان متزوجان أحدهما كان يعيش معى هو وزوجته فى نفس المنزل فقررت أن أسند إليه أعمال والدهم كى يديرونها بعد أبيهم لأنهم سيكونون أفضل منى فى هذا واستمر كل شىء طبيعى حتى أنه ذات يوم جاء إليا إبنى الذى يعيش معى ليخبرنى بأنه إشترى مسكناً جديداً وسوف يعيش فيه هو وزوجته فدعوت له بالسعادة وسعة الرزق فهم أولادى ولابد وأن أتمنى لهم الخير فطلبت منهم أن يطلعونى دائما بما يتم فى تجارتنا. ومضت الأيام يوما بعد يوم إنقطعت زياراتهم لى وحتى أخبارهم أصبحت لا أعلم عنهم شيئا. وعندما قررت أن أذهب يوما لأصرف مبلغا من المال من البنك فكانت صدمتى بأننى علمت بأنهم قد حولوا كل الأرصدة لحسابهم بموجب التوكيل ولم يتركوا لى شيئاً فأصبحت حتى لا أجد قوت يومى؛ وعندما ذهبت إليهم كى أعرف لماذا فعلوا بى هذا وجدتهم يعاملوننى وكأننى أطلب منهم مساعدة ولست صاحبة هذا المال فقررت ألا أذهب إليهم مرة أخرى؛ وها أنا أصبحت كما ترى بدلا من أن أمد يدى. 
قلت وقد إنتابنى شىء من الأسى لما سمعت إذا فلتقبلى مساعدتى. 
قالت. كيف. 
قلت. لقد إستأجرت محلاكبيراً وملأته بضاعة وأريدك أن تشاركينى فى إداراته فأنا لديا أعمال كثيرة. 
حينذاك أحسست الفرحة فى عينيها ولمع بريقهما وتفتحت بشرتها بعد أن كان الصخب يخيم عليها وكأنها لم تصدق حتى؛ أخذتها إلى المحل وإستلمت إداراته. وفى فترة وجيزة ربحت تلك التجارة وتم فتح فروع أخرى بفضل إخلاصها فى العمل فأراد الله أن يعوضها عما فعلوه أبناءها فاستعادة حياتها الكريمة بعد أن كانت على حافة الهاوية ... تمت
بقلمى. عبدالنبى عياد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

*تونس يا بلادي... سميربن التبريزي الحفصاوي

الإعلامي د. أحمد أسامة عمر يتألق فى ندوة نادي سينما أسامة عمر

نفحةٌ قلب بقلمي السيد حسن عبدربه